الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولنذكر ما في الخلق والأمر من الوجود المنقولة والمعقولة أحدها: ما ذكرنا أن الأمر هو كلمة: {كُنَّ} والخلق هو ما بالقدرة والإرادة ثانيها: ما ذكروا في الأجسام أن منها الأرواح ثالثها: هو أن الله له قدرة بها الإيجاد وإرادة بها التخصيص، وذلك لأن المحدث له وجود مختص بزمان وله مقدار معين فوجوده بالقدرة واختصاصه بالزمان بالإرادة فالذي بقدرته خلق والذي بالإرادة أمر حيث يخصصه بأمره بزمان ويدل عليه المنقول والمعقول، أما المنقول فقوله تعالى: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقول لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] جعل {كُنَّ} لتعلق الإرادة، واعلم أن المراد من: {كُنَّ} ليس هو الحرف والكلمة التي من الكاف والنون، لأن الحصول أسرع من كلمة كن إذا حملتها على حقيقة اللفظ فإن الكاف والنون لا يوجد من متكلم واحد إلا الترتيب ففي كن لفظ زمان والكون بعد بدليل قوله تعالى: {فَيَكُونُ} بالفاء فإذن لو كان المراد يكن حقيقة الحرف والصوت لكان الحصول بعده بزمان وليس كذلك، فإن قال قائل: يمكن أن يوجد الحرفان معًا وليس كلام الله تعالى ككلامنا يحتاج إلى الزمان قلنا: قد جعل له معنى غير ما نفهمه من اللفظ.وأما المعقول فلأن الاختصاص بالزمان ليس لمعنى وعلة وإن كان بعض الناس ذهب إلى أن الخلق والإيجاد لحكمة وقال: بأن الله خلق الأرض لتكون مقر الناس أو مثل هذا من الحكم ولم يمكنه أن يقول: خلق الأرض في الزمان المخصوص لتكون مقرا لهم لأنه لو خلقها في غير ذلك لكانت أيضًا مقرا لهم فإذن التخصيص ليس لمعنى فهو لمحض الحكمة فهو يشبه أمر الملك الجبار الذي يأمر ولا يقال له: لم أمرت ولم فعلت ولا يعلم مقصود الآمر إلا منه رابعها: هو أن الأشياء المخلوقة لا تنفك عن أوصاف ثلاثة أو عن وصفين متقابلين، مثاله الجسم لابد له بعد خلقه أن يكون متحيزًا ولا بد له من أن يكون ساكنًا أو متحركًا فإيجاده أولًا يخلقه وما هو عليه بأمره يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] إلى أن قال: {مسخرات بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] فجعل مالها بعد خلقها من الحركة والسكون وغيرهما بأمره ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر» جعل الخلق في الحقيقة والأمر في الوصف، وكذلك قوله تعالى: {خُلِقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة: 4] ثم قال: {يُدَبّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} [السجدة: 5] وقد ذكرنا تفسيره خامسها: مخلوقات الله تعالى على قسمين أحدهما: خلقه الله تعالى في أسرع ما يكون كالعقل وغيره وثانيهما: خلقه بمهلة كالسموات والإنسان والحيوان والنبات، فالمخلوق سريعًا أطلق عليه الأمر والمخلوق بمهلة أطلق عليه الخلق، وهذا مثل الوجه الثاني سادسها: ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: {فَقال لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] وهو أن الخلق هو التقدير والإيجاد بعده بعدية ترتيبية لا زمانية ففي علم الله تعالى أن السموات تكون سبع سموات في يومين تقديرية فهو قدر خلقه كما علم وهو إيجاد فالأول خلق والثاني وهو الإيجاد أمر وأخذ هذا من المفهوم اللغوي قال الشاعر:وبعض الناس يخلق ثم لا يفري.. أي يقدر ولا يقطع ولا يفصل كالخياط الذي يقدر أولًا ويقطع ثانيًا وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن، لأن الله تعالى حيث ذكر الخلق أراد الإيجاد منه قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ} [العنكبوت: 61] ومنه قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} [يس: 77] وليس المراد أنا قدرنا أنه سيوجد منها إلى غير ذلك سابعها: الخلق هو الإيجاد ابتداء والأمر هو ما به الإعادة فإن الله خلق الخلق أولًا بمهلة ثم يوم القيامة ببعثهم في أسرع من لحظة، فيكون قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ واحدة}.[الصافات: 19] وقوله: {صَيْحَةً واحدة} [يس: 29] {نَفْخَةٌ واحدة} [الحاقة: 13] وعلى هذا فقوله: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] إشارة إلى الوحدانية.وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} إلى الحشر فكأنه بين الأصل الأول والأصل الآخر بالآيات ثامنها: الإيجاد خلق والإعدام أمر، يعني يقول للملائكة الغلاظ الشداد أهلكوا وافعلوا فلا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الامتثال على إعادة الأمر مرة أخرى فأمره مرة واحدة يعقبه العدم والهلاك.وفيه لطيفة: وهي أن الله تعالى جعل الإيجاد الذي هو من الرحمة بيده، والإهلاك يسلط عليه رسله وملائكته، وجعل الموت بيد ملك الموت ولم يجعل الحياة بيد ملك، وهذا مناسب لهذا الموضع لأنه بين النعمة بقوله: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وبين قدرته على النقمة فقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة}.{وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} [المؤمنون: 18] وهو كقوله: {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [المؤمنون: 27] عند العذاب، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صالحا} [هود: 66] وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا} [هود: 82] وكما ذكر في هذه الحكايات العذاب بلفظ الأمر وبين الإهلاك به كذلك هاهنا ولا سيما إذا نظرت إلى ما تقدم من الحكايات ووجدتها عين تلك الحكايات يقوي هذا القول وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 51] يدل على صحة هذا القول تاسعها: في معنى اللمح بالبصر وجهان أحدهما: النظر بالعين يقال: لمحته ببصري كما يقال: نظرت إليه بعيني والباء حينئذ كما يذكر في الآيات فيقال: كتبت بالقلم، واختار هذا المثال لأن النظر بالعين أسرع حركة توجد في الإنسان لأن العين وجد فيها أمور تعين على سرعة الحركة أحدها: قرب المحرك منها فإن المحرك العصبية ومنبتها الدماغ والعين في غاية القرب منه ثانيها: صغر حجمها فإنها لا تعصى على المحرك ولا تثقل عليه بخلاف العظام ثالثها: استدارة شكلها فإن دحرجة الكرة أسهل من دحرجة المربع والمثلث رابعها: كونها في رطوبة مخلوقة في العضو الذي هو موضعها وهذه الحكمة في أن المرئيات في غاية الكثرة بخلاف المأكولات والمسموعات والمقاصد التي تقصد بالأرجل والمذوقات، فلولا سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول زمان وثانيهما: اللمح بالبصر معناه البرق يخطف بالبصر ويمر به سريعًا والباء حينئذ للإلصاق لا للاستعانة كقوله: مررت به وذلك في غاية السرعة، وقوله: {بالبصر} فيه فائدة وهي غاية السرعة فإنه لو قال: كلمح البرق حين برق ويبتدىء حركته من مكان وينتهي إلى مكان آخر في أقل زمان يفرض لصح، لكن مع هذا فالقدر الذي مروره يكون بالبصر أقل من الذي يكون من مبتداه إلى منتهاه، فقال: {كَلَمْحِ} لا كما قيل: من المبدأ إلى المنتهى بل القدر الذي يمر بالبصر وهو غاية القلة ونهاية السرعة.{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)}.والأشياع الأشكال، وقد ذكرنا أن هذا يدل على أن قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} [القمر: 50] تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر.{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)}.إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على إهلاكهم بل الإهلاك هو العاجل والعذاب الآجل الذي هو معد لهم على ما فعلوه، مكتوب عليهم، والزبر هي كتب الكتبة الذين قال تعالى فيهم: {كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَامًا كاتبين} [الانفطار: 9 11] و: {فَعَلُوهُ} صفة شيء والنكرة توصف بالجمل.{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)}.تعميم للحكم أي ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه بل ما فعله غيرهم أيضًا مسطور فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة، وقد ذكرنا في قوله تعالى: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقال ذَرَّةٍ في السموات وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ في كتاب} [سبأ: 3] أن في قوله: {أَكْبَرَ} فائدة عظيمة وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه، فلما قال: {وَلا أَكْبَرَ} أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان، فكذلك نقول: هاهنا وفي قوله: {مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ ُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة فيبتدىء بها حفظًا عن النسيان في عادة الخلق فأجرى الله الذكر على عادتهم، وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام.{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}.قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها: {الطور} وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل:المسألة الأولى:لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر، فما فمعنى قوله تعالى: {وَنَهَرٍ}؟ نقول: قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15] في سورة الذاريات، وقلنا: المراد في خلال العيون، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس، ولهذا قال تعالى: {فِى ظلال وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41].وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها، فكذلك النهر، ونزيد هاهنا وجهًا آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال: علفتها تبنًا وماء باردًا.وقالوا: تقلدت سيفًا ورمحًا، والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في.المسألة الثانية:وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه؟ نقول: أما على الجواب الأول فنقول: لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال.وأما في قوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهرًا واحدًا كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول: الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة أشجارها وتنوعها والتوحيد عندما قال: {مَّثَلُ الجنة} [محمد: 15] وقال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها، وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة، وتلك المحلة في مدينة، يقال إنه في بلدة كذا، وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين، فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر، لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار وإنما يمكن أن يكون عند نهرين، والثالث منه أبعد من النهرين، فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند أنهار والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا، فقال: عند نهر لما بينا أن قوله: {وَنَهَرٍ} وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في تقلدت سيفًا ورمحًا، وأما قوله: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة، فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع، ويحتمل أن يقال و{نهر} التنكير للتعظيم.وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها، وهو الذي من الكوثر، ومن عين الرضوان وكان الحصول عنده شرفًا وغبطه وكل أحد يكون له مقعد عنده وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ولا يرون القاعد عندها فقال: {فِى جنات وَنَهَرٍ} أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] لكونه غير معلوم لهم، وفي هذا وجه حسن أيضًا ولا يحتاج على الوجهين أن نقول: نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس.المسألة الثالثة:قال ههنا: {فِى} وقال في الذاريات: {وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15] فما الفرق بينهما؟ نقول: إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهارًا عند الامتداد ولا يمكن أن يكون وفي خلال أنهار وإنما هي نهران فحسب، وأما إن قلنا: إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا: أي عظيم عليه مقاعد، فنقول: يكون ذلك النهر ممتدًا واصلًا إلى كل واحد وله عنده مقعد عيون كثيرة تابعة، فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات هاهنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد هاهنا والجمع هناك.المسألة الرابعة:قرئ: {فِى جنات وَنَهَرٍ} على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك وعلى هذا فكلمة في حقيقة فيه فقوله: {فِي جنات} ظرف مكان، وقوله: {وَنَهَرٍ} أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان، وقرئ {ونهر} بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري، ويحتمل أن يقال: نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر.{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}.فيه مسائل:المسألة الأولى:{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ}، كيف مخرجه؟ نقول: يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون على صورة بدل كما يقول القائل: فلان في بلدة كذا في دار كذا وعلى هذا يكون مقعد من جملة الجنات موضعًا مختارًا له مزية على مافي الجنات من المواضع وعلى هذا قوله: {عِندَ مَلِيكٍ} لأنا بينا في أحد الوجوه أن المراد من قوله: {فِى جنات وَنَهَرٍ} [القمر: 54] في جنات عند نهر فقال: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} ويحتمل أن يقال: {عِندَ مَلِيكٍ} صفة مقعد صدق تقول درهم في ذمة ملىء خير من دينار في ذمة معسر، وقليل عند أمين أفضل من كثير عند خائن فيكون صفة وإلا لما حسن جعله مبتدأ ثانيهما: أن يكون: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} كالصفة لجنات ونهر أي في جنات ونهر موصوفين بأنهما في مقعد صدق، تقول: وقفة في سبيل الله أفضل من كذا و: {عِندَ مَلِيكٍ} صفة بعد صفة.المسألة الثانية:قوله: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} يدل على لبث لا يدل عليه المجلس، وذلك لأن قعد وجلس ليسا على ما يظن أنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما بل بينهما فرق ولكن لا يظهر إلا للبارع، والفرق هو أن القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء، ويدل عليه وجوه الأول: هو أن الزمن يسمى مقعدًا ولا يسمى مجلسًا لطول المكث حقيقة ومنه سمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد ولا يقال لهن: جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقرا بين الدوام والثبات على حالة واحدة ويقال للمركوب من الإبل قعود لدوام اقتعاده اقتضاء، وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس الثاني: النظر إلى تقاليب الحروف فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت، وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال: أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر، وإذا قدمت الدال رأيت دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب.
|